سورة الأنعام - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله: {قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أمره الله سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار، ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه من دون الله، أي: نهاه الله عن ذلك وصرفه وزجره، ثم أمره سبحانه بأن يقول لهم: {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم، من اتباع الأهواء والمشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال. قوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي إن اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم، وطرد من أردتم طرده {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، والمجيء بها اسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات، وقرئ: {ضَلَلْتُ} بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمرو: ضللت بكسر اللام لغة تميم، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة بن مصرف، والأولى هي الأصح والأفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. قال الجوهري: والضلال والضلالة ضدّ الرشاد، وقد ضللت أضلّ، قال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} [سبأ: 50] قال فهذه: يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة، وأهل العالية يقول: {ضللت} بالكسر أضلّ انتهى.
قوله: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} البينة: الحجة والبرهان، أي إني على برهان من ربي ويقين، لا على هوى وشك، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية، لا كما هم عليه من اتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة. قوله: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بالربّ أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، والتذكير للضمير باعتبار المعنى. وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد، أي والحال أن قد كذبتم به، أو جملة مستأنفة مبينة لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة والبراهين البينة.
قوله: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلونه من العذاب، فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء، نحو قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92]، وقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32]، وقولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [سبأ: 29]، وقيل: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من الآيات التي تقترحونها عليّ.
قوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ الله} أي ما الحكم في كل شيء إلا لله سبحانه، ومن جملة ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة. والمراد: الحكم الفاصل بين الحق والباطل.
قوله: {يَقُصُّ الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم {يَقُصُّ} بالقاف والصاد المهملة، وقرأ الباقون {يَقْضِى} بالضاد المعجمة والياء، وكذا قرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن المسيب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء. فعلى القراءة الأولى، هو من القصص، أي يقصّ القصص الحق، أو من قصّ أثره، أي يتبع الحق فيما يحكم به. وعلى القراءة الثانية، هو من القضاء، أي يقضي القضاء بين عباده، و{الحق} منتصب على المفعولية، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه. ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: {لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدوراً إليّ وفي وسعي {لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك، أو المعنى: لو كان العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون به عندي، وفي قبضتي لأنزلته بكم، وعند ذلك يقضى الأمر بيني وبينكم {والله أَعْلَمُ بالظالمين} وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما تقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم.
قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع مفتح بالفتح وهو المخزن، أي عنده مخازن الغيب، جعل للأمور الغيبية مخازن تخزن فيها على طريق الاستعارة، أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميفع {وَعِندَهُ مَفَاتِيح الغيب} فإن المفاتيح جمع مفتاح والمعنى: إن عنده سبحانه خاصة مخازن الغيب، أو المفاتيح التي يتوصل بها. وقوله: {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} جملة مؤكّدة لمضمون الجملة الأولى، وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق اندراجاً أوّلياً. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدّعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد»
قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر} خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله، أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء، أو خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} أي من ورق الشجر وهو تخصيص بعد التعميم، أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه.
وقيل: المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق.
وحكى النقاش عن جعفر بن محمد: أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه {وَلاَ حَبَّةٍ} كائنة {فِى ظلمات الأرض} أي في الأمكنة المظلمة. وقيل: في بطن الأرض {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} بالخفض عطفاً على حبة، وهي معطوفة على ورقة. وقرأ ابن السميفع، والحسن، وغيرهما بالرفع عطفاً على موضع {من ورقة} وقد شمل وصف الرطوبة واليبوسة جميع الموجودات. قوله: {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ، فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من {إِلاَّ يَعْلَمُهَا}. وقيل: هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي عمران الجوني، في قوله: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: على ثقة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة في قوله: {لَقُضِىَ الأمر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} قال: لقامت الساعة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} قال: يقول خزائن الغيب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} قال: هنّ خمس {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى قوله: {عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأيّ أرض تموت إلا الله، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله».
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} قال: ما من شجرة في برّ ولا بحر إلا وبها ملك يكتب ما يسقط من ورقها.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن محمد بن جحادة في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} قال: لله تبارك وتعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، فذلك قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}.
وأخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار، إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان» فذلك قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن} الآية.
وقد رواه يزيد بن هارون، عن محمد ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} فقال: الرطب واليابس من كل شيء.


قوله: {يتوفاكم باليل} أي ينيمكم فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون وليس ذلك موتاً حقيقة، فهو مثل قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42] والتوفي استيفاء الشيء، وتوفيت الشيء واستوفيته: إذا أخذته أجمع، قال الشاعر:
إن بني الأدرم ليسوا من أحد *** ولا توفاهم قريش في العدد
قيل: الروح إذا خرجت من البدن في المنام بقيت فيه الحياة، وقيل: لا تخرج منه الروح بل الذهن فقط، والأولى أن هذا أمر لا يعرفه إلا الله سبحانه. قوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي كسبتم بجوارحكم من الخير والشرّ. قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار يعني اليقظة وقيل يبعثكم من القبور فيه، أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه. وقيل ثم يبعثكم فيه، أي في المنام، ومعنى الآية: أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم، فإنه عالم بذلك ولكن {لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بعد الموت {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} المراد: فوقية القدرة والرتبة كما يقال: السلطان فوق الرعية، وقد تقدّم بيانه في أوّل السورة. قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} [الإنفطار: 10] بمعنى: أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، والحفظة جمع حافظ، مثل كتبة جمع كاتب {وَعَلَيْكُمْ} متعلق {بيرسل} لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه، وأنه أمر حقيق بذلك. وقيل هو متعلق بحفظة.
قوله: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {حتى} يحتمل أن تكون هي الغائية، أي ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما أمروا بحفظه مما يتعلق بكم {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} ويحتمل أن تكون الابتدائية. والمراد بمجيء الموت: مجيء علاماته. وقرأ حمزة {توفاه رسلنا} وقرأ الأعمش {تتوفاه} والرسل: هم أعوان ملك الموت، ومعنى توفته: استوفت روحه: {لاَ يُفَرّطُونَ} أي لا يقصرون ويضيعون، وأصله من التقدّم، وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير {لا يفرطون} بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة.
قوله: {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق} معطوف على توفته، والضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الكل مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أي ردّوا بعد الحشر إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه {مولاهم} مالكهم الذي يلي أمورهم {الحق} قرأ الجمهور بالجر صفة لاسم الله.
وقرأ الحسن {الحق} بالنصب على إضمار فعل، أي أعني أو أمدح، أو على المصدر {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر.
وقد أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردّها إليه، فذلك قوله تعالى: {يتوفاكم باليل}».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة، في الآية قال: ما من ليلة إلا والله يقبض الأرواح كلها، فيسأل كل نفس عما عمل صاحبها من النهار، ثم يدعو ملك الموت فيقول: اقبض روح هذا؛ وما من يوم إلا وملك الموت ينظر في كتاب حياة الإنسان، قائل يقول ثلاثاً، وقائل يقول خمساً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم، وأما {جَرَحْتُم بالنهار} فيقول: ما اكتسبتم بالنهار {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} قال: في النهار {لّيَقْضِىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} وهو الموت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم} قال: ما كسبتم من الإثم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} قال: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال: أعوان ملك الموت من الملائكة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} يقول: لا يضيعون.


قيل: المراد بظلمات البرّ والبحر: شدائدهما. قال النحاس: والعرب تقول يوم مظلم إذا كان شديداً، فإذا عظمت ذلك قالت: يوم ذو كوكب، أي يحتاجون فيه لشدّة ظلمته إلى كوكب، وأنشد سيبويه:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
والاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي من ينجيكم من شدائدهما العظيمة؟ قرأ أبو بكر عن عاصم {خفية} بكسر الخاء. وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان. وقرأ الأعمش {وَخِيفَةً} من الخوف. وجملة {تَدْعُونَهُ} في محل نصب على الحال، أي من ينجيكم من ذلك حال دعائكم له دعاء تضرّع وخفية، أو متضرّعين ومخفين. والمراد بالتضرّع هنا: دعاء الجهر. قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} كذا قرأ أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ الكوفيون {لَّئِنْ أنجانا} والجملة في محل نصب على تقدير القول، أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة التي نزلت بنا، وهي الظلمات المذكورة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك على ما أنعمت به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد.
قوله: {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} قرأ الكوفيون وهشام {يُنَجّيكُمْ} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وقراءة التشديد تفيد التكثير. وقيل: معناهما واحد، والضمير في {مِنْهَا} راجع إلى الظلمات. والكرب: الغم يأخذ بالنفس، ومنه رجل مكروب. قال عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه *** بطعنة فيصل لما دعاني
{ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} بالله سبحانه بعد أن أحسَن إليكم بالخلوص من الشدائد، وذهاب الكروب، شركاء لا ينفعونكم ولا يضرّونكم، ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك موضع ما وعدتم به من أنفسكم من الشكر؟ ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: {هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد، ودفع عنكم تلك الكروب، قادر على أن يعيدكم في شدّة ومحنة وكرب، يبعث عذابه عليكم من كل جانب. فالعذاب المبعوث من جهة الفوق: ما ينزل من السماء من المطر والصواعق. والمبعوث من تحت الأرجل: الخسف والزلازل والغرق. وقيل: {مّن فَوْقِكُمْ} يعني الأمراء الظلمة {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني السفلة، وعبيد السوء.
قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قرأ الجمهور بفتح التحتية، من لبس الأمر: إذا خلطه. وقرأ أبو عبد الله المديني بضمها، أي يجعل ذلك لباساً لكم. قيل والأصل: أو يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين مع حرف الجرّ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3]. والمعنى: يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء. وقيل: يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً. والشيع: الفرق، أي يخلطكم فرقاً.
قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي يصيب بعضكم بشدّة بعض من قتل وأسر ونهب {وَيُذِيقَ} معطوف على {يَبْعَثَ} وقرئ: {نذيق} بالنون {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الأيات} نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم بيانات متنوّعة.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} يقول: من كرب البرّ والبحر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، في تفسير الآية عن ابن عباس قال: يقول إذا أضلّ الرجل الطريق دعا الله لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال: يعني من أمرائكم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني سفلتكم {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يعني بالشيع: الأهواء المختلفة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه من وجه آخر في تفسير الآية قال: {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} أئمة السوء {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: خدم السوء.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً من وجه آخر قال: {مّن فَوْقِكُمْ} من قبل أمرائكم وأشرافكم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: من قبل سفلتكم وعبيدكم.
وأخرج عبد ابن حميد، وأبو الشيخ، عن أبي مالك {عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال: القذف {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الخسف.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد أيضاً {مّن فَوْقِكُمْ} قال: الصيحة والحجارة والريح {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الرجفة والخسف، وهما عذاب أهل التكذيب {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: عذاب أهل الإقرار.
وأخرج البخاري وغيره، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هذا أهون وأيسر».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وغيرهم، من حديث طويل عن ثوبان، وفيه: «وسألته أن لا يسلط عليهم عدوّاً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها».
وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيهما، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وأخرج أحمد، والحاكم وصححه، من حديث جابر بن عتيك نحوه.
وأخرج نحوه أيضاً ابن مردويه، من حديث أبي هريرة.
وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة وابن مردويه، من حديث حذيفة بن اليمان نحوه.
وأخرج أحمد والنسائي، وابن مردويه، عن أنس نحوه أيضاً.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي في هذه الآية: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، عن أبيّ بن كعب في هذه الآية قال: هنّ أربع وكلهنّ عذاب وكلهنّ واقع لا محالة. فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعاً، وذاق بعضهم بأس بعض؛ وبقيت اثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم. والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8